ملاعب الولايات الآمنة.. متنفس النازحين وسط بارود الحرب..!!
يس علي يس
حين توقفت عجلة كل شيء.. ولم يعد في الساحة ما يقطع سلسلة التفكير في مآلات الحرب في الخرطوم والجزيرة والنيل الأزرق وتداعياتها، ووسط سحابات النزوح الغائمة، وهموم البقاء والرحيل، كان ثمة رئة في الولايات الآمنة تملأ عمق اللحظات ببعض الأمن، وتعيد الناس إلى ذكريات الأمان، في وقت أصبح فيه الأمان مجرد ذكريات، وولايات السودان الآمنة، كانت تقف مع رفيقاتها التي غطى سماؤها الدخان ورائحة البارود، وصوت المدافع، وأعلنت توقف كل شيء، ولم يستثن ذلك الرياضة، ودوريات كرة القدم من هذا التعميم، ولأن الرياضة عموماً، وكرة القدم على وجه الخصوص، لا يمكن الاستغناء عنها ومتابعتها، تبقى مثل الماء والهواء، يتنفسها الجميع بحب، رغم كل شيء، فكانت ملاعب دنقلا، شندي، عطبرة، بورتسودان، كسلا، الدامر، تتحدى ظلمة الواقع، نجوماً في سماء، من خلال فعاليات رياضية مختلفة، جمعت الناس على الحب، حول المستطيل الأخضر، ليستعيدوا شيئاً من ألق الحياة، وعشم العودة إلى الحياة الطبيعية، ليستمر النشاط يغذي جسد الرياضة في السودان، ويمنح قبلة الأمل والحياة، لأحلام العودة، وإحياء الملاعب المهجورة في أحياء المدن التي أفرغتها الحرب من الناس.
والقضارف في شرق السودان، تقف على خط التماس بين الدندر بين ناحية وولاية الجزيرة من ناحية أخرى، تنصب دفاعاتها ليلاً ونهاراً، ليعيش إنسانها في أمان، ولتحمي النازحين الذين هربوا من جحيم الحرب إليها، حتى لا تتكرر التجربة، ولا تعيد حكايات السفر الطويل سيراً على الأقدام إلى واقع جديد، ومجهول، ومظلم..
وفي ظل توقف النشاط الرياضي في ولايات السودان المختلفة، كان لا بد من صناعة واقع موازٍ، يجعل من كرة القدم – معشوقة الجماهير – فعالية مستمرة، تتحدى الظروف، وتعلن أن الرياضة ستظل على الدوام هي رسالة السلام، وسلام الرسالة، واللغة التي يقف عندها الجميع بصمت جميل ومهذب، وتذوب خلف كرة الجلد المدورة، كل الهموم والمشاكل، ويجتمع الناس على فرضيات النصر والتعادل والهزيمة، بدون أن يتسرب الغبن إلى صدر أحدهم، فيفرح المنتصر، ويتقبل الخاسر الهزيمة، وترتسم ابتسامة الرضا حين يقتسم الفريقان النتيجة.. في رسالة سامية لا تحملها إلا الرياضة فقط..
خلال عام ونصف، هي فترة الحرب في السودان، كانت القضارف، وعبر المجلس الأعلى للشباب والرياضة، تحرك كل الإمكانيات من أجل أن يستمر النشاط، ومن أجل أن تبقى الميادين حكاية تتناقلها الأجيال، براعم، ناشئين، شباب ومحترفين، مستفيدة من دخول العديد من الخبرات الرياضية إلى الولاية، والأسماء الكبيرة في عالم كرة القدم، لتطوير واقع الرياضة في القضارف، ولاكتساب الخبرات، في فرصة لا تتكرر، فكان نتاج ذلك ثورة من الدورات التنشيطية لمختلف الفئات، دون كلل أو ملل، ودون توقف، مستفيدة من شعلة النشاط، الأستاذ المعز يوسف سعيد، الأمين العام للمجلس الأعلى للشباب والرياضة بولاية القضارف، والذي ظل على الدوام يدعم كل الدورات من أجل استمراريتها.
خلال عام ونصف العام أقيمت أكثر من 150 دورة في ملاعب مدينة القضارف المختلفة، وفي مختلف الأحياء بالمدينة، بل تجاوزتها إلى المحليات الأخرى بالولاية، حتى تلك التي على نقاط التماس المشتعلة، تستصحب معها خبراء التحكيم والتدريب لتقديم محاضرات للمدربين والحكام هناك، ولحضور فعالية تنافسية في كرة القدم..
أكثر من 150 دورة احتضنتها القضارف، وكانت ملاذا للنازحين الذين ضجت بهم المدارس، ومراكز الإيواء، فكانوا نواة حقيقية للجماهير التي تتابع المباريات، وتساند فرقها بحماس وجدية، ما منح الدورات الزخم الجماهيري المطلوب، وبالتالي ساهمت الرياضة في محاربة الملل، ومنحت الفرصة للاعبين للظهور وممارسة النشاط عبر برنامج مدروس ومخطط لتخطي مراحل التثاؤب الرياضي الذي فرضته الحرب على الجميع..
كثير من الفرق شاركت باسم “منتخب النازحين”، وهم قد تركوا ديارهم خلفهم، وجاءوا إلى المدينة مثخنين بالجراحات، والهموم، فكانت هذه الدورات بمثابة تذويب لوجودهم في المجتمع، بل ونافسوا في كثير من الأحيان على كأس الدورات، وحققوا بعضها، ووصلوا في كثير منها إلى النهائيات، ووجدوا الطريق إلى التوقيع في أندية الدرجات الأولى والثانية والثالثة بالقضارف، إلى جانب فريق الشرطة القضارف ممثل المدينة في الدوري الممتاز، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد كانت الميادين الصغيرة أيضا بحراً لاكتشاف الناشئين والبراعم، وغذى الأطفال النازحين أندية البراعم والناشئين بمواهب واعدة، ستكون كشجرة نبتت في عمق الجراح والحرب بفضل الرياضة..
المجلس الأعلى للشباب والرياضة بالقضارف، بذل ما تفوق قيمته 22 مليون جنيه سوداني ” حوالي 50 ألف دولار”، لتوفير معينات هذه الدورات في ولاية القضارف، وتوفير كل ما من شأنه أن يسهم في استمرار النشاط، ومواصلة تحدي لغة الرصاص والحرب برسالة السلام التي لا تعرف زمان ولا مكان ولا ظروف، ولميادين يقف فيها قضاة الجولات براياتهم، ويلتف حول الملعب الجمهور من كل مكان، يقاسمون النازحون فرضية الأمان في ملعب كرة القدم.